الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **
فيها جمع سيف الدولة جيشاً عظيماً ودخل في بلاد الروم فغنم وسبى سبياً كثيراً وعاد سالماً. وذلت القرامطة فأمن الوقت وحج الركب. وفيها توفي ابن الأعرابي المحدث الصوفي القدوة أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري نزيل مكة روى عن إسحاق الزعفراني. وخلق كثير وجمع وصنف ورحل إليه. وفيها توفي الفقيه الإمام الكبير أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي إمام عصره في الفتوى والتدريس أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج وبرع فيه وانتهت إليه الرئاسة بالعراق بعد ابن شريح وصنف كتباً كثيرة و شرح مختصر المزني وأقام ببغداد زمناً طويلاً يدرس ويفتي ونجب من أصحابه خلق كثير وإليه ينسب درب المروزي ببغداد. ثم ارتحل إلى مصر في آخر عمره فأدركه أجله فيها ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي. وفيها توفي العلامة شيخ الحنفية بما وراء النهر أبو محمد عبد الله بن محمد البخاري وكان محدثاً رأساً في الفقه صنف التصانيف. وقال الحاكم: هو صاحب عجائب عن الثقات وقال أبو زرعة: هو ضعيف. وفيها توفي أبو القاسم الزجاجي عبد الرحمن بن إسحاق النهاوندي صاحب التصانيف أخذ عن اليزيدي وابن دريد وابن الأنباري وصحب أبا إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج وإليه نسب وبه عرف. وسكن دمشق وانتفع به الناس وانتفع بكتابه خلق لا يحصون. فقيل: إنه جاور بمكة مئة كان إذا قرع الباب طاف أسبوعاً ودعا بالمغفرة وأن ينتفع بكتابه قارئه.قلت: وأخبرني بعض فضلاء المغاربة أن عندهم لكتابه مائة وعشرين شرحاً قال ابن خلكان: وهو كتاب نافع لولا طوله بكثرة الأمثلة. قلت: ولعمري إن كتابين قد عظم النفع بهما مع وضوح عبارتهما وكثرة أمثلتهما وهما " جمل الزجاجي " المذكور و " الكافي في الفرائض " للصروفي من أهل اليمن رضي الله تعالى عنه هما كتابان مباركان ما اشتغل أحد بهما إلا انتفع خصوصاً أهل اليمن بكتاب الكافي المذكور وبالجمل في بلاد الإسلام على العموم وما ذكر عن مصنفه من الطواف والدعاء قد ذكر عن غير واحد من المصنفين ومنهم الإمام الشيخ شهاب الدين السهروردي في تصنيف عقيدته وبعضهم ومنهم الإمام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه التنبيه والله أعلم بصحة ذلك عنهم ولعمري إن صح ذلك وهو من الهمم العالية في الاهتمام بصلاح الدين والنفع العام للمسلمين والتوفيق الخاص من رب العالمين. توفي الزجاجي رحمه الله في شهر رمضان وقيل في رجب في طبرية وقيل في دمشق في السنة المذكورة وقيل في سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة والله أعلم. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ الإمام محدث الأندلس أبو محمد قاسم بن أصبغ القرطبي صنف كتاباً على وضع سنن أبي داود وكان إماماً في العربية. وفيها توفي أبو الحسن الكرخي شيخ الحنفية بالعراق وانتهت إليه رئاسة المذهب وخرج له أصحاب أئمة. وكان إماماً قانعاً متعففاً عابداً صواماً قواماً كثير القدر.
فيها ظهر رجل وامرأة من التناسخية يزعم الرجل أن روح علي رضي الله عنه انتقلت إليه. وتزعم المرأة أن روح فاطمة رضي الله تعالى عنها انتقلت إليها. وآخر يدعي أنه جبريل فضربهم الوزير المهلبي فتعززوا بالانتماء إلى أهل البيت. وكان بعض الولاة إذ ذاك شيعياً فأمر وفيها توفي طاهر المنصور إسماعيل بن القائم بن المهدي العبيدي الباطني صاحب المغرب. حارب مخلداً الأباضي الذي قد قمع بني عبيد واستولى على مماليكه فأسره وسلخه بعد موته وحشى جلده. وكان المنصور المذكور بطلاً شجاعاً فصيحاً مفوهاً يرتجل الخطب. وكان سبب موته أنه أصابهم مطر نزل فيه برد كبير وهبت ريح شديدة فأوهن ذلك جسمه واشتد عليه البرد ومات أكثر من معه فأراد أن يدخل الحمام فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي فلم يقبل منه ودخل الحمام فنالت الحرارة الغريزية منه ولازمه السهر فأقبل إسحاق يعالجه والسهر باق على حاله فاشتد ذلك عليه فقال لبعض الخدم: أما بالقيروان طبيب يخلصني من هذا.فقيل: هنا شاب قد نشأ يقال له إبراهيم فأمر بإحضاره فحضر فعرفه وشكا ما به فجمع له أشياء منومة وجعلت في قنينة على النار وكلفه شمها. فلما أدمن شمها نام وخرج إبراهيم مسروراً بما فعل وجاء إسحاق ليدخل عليه فقالوا: هو نائم فقال: إذا كان قد صنع له شيئاً ينام به فقد مات فدخلوا عليه فوجدوه قد مات فأرادوا قتل إبراهيم فقال إسحاق: ما له ذنب إنما داوأه بما ذكره الأطباء غير أنه جهل أصل المرض وما عرفتموه ذلك إني كنت أعالجه وأنظر في تقويه الحرارة الغريزية وبها يكون النوم فلما عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات ثم دفن بالمهدية. فيها توفي العلامة أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب شيخ الشافعية بنيسابور سمع بخراسان والعراق والحجاز والجبال فأكثر وبرع في الحديث وأفتى نيفاً وخمسين سنة وصنف الكتب الكبار في الفقه والحديث قال محمد بن حمدون: صحبته عدة سنين فما ترك قيام الليل وقال الحاكم: كان يضرب المثل بعقله ورأيه وما رأيت في جميع مشايخنا أحسن صلاة منه وكان لا يدع أحداً يغتاب في مجلسه. وفيها توفي الشيخ الكبير إبراهيم بن أحمد الرقي الواعظ شيخ الصوفية أخذ عن الجماعة وجنيد. وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي القاضي الحنفي وكان من أذكياء العالم راوية الأشعار عارفاً بالكلام والنحو وله ديوان شعر ويقال أنه حفظ ستمائة بيت في يوم وليلة. وفيها توفي الناشىء الأصغر: علي بن عبد الله بن وصيف الشاعر المشهور. " كان متكلماً بارعاً وهو من كبار الشيعة وله تصانيف عديدة وأشعار حميدة منها قوله: إني ليهجرني الصديق تجنباً فأريه أن لهجره أسبابا وأخاف إن عاتبته أغريته فأري له ترك العتاب عتابا وإذا بليت بجاهل متغافل يدعو المحال من الأمور صوابا وقوله: إذا أنا عاتبت الملوك فإنما أخط بأقلام على الماء أحرفا وهبه ارعوى بعد العتاب ألم تكن مودته طبعاً فصار تكلفا وكان المتنبي وهو صبي يحضر مجلسه في الكوفة وكتب من إملائه من قصيدة له: كأن سنان ذابله ضمير فليس عن القلوب له ذهاب وصارمه كبيعتة لحم مقاصدها من الخلق الرقاب فنظم المتنبي هذا وقال: كأن الهام في الهيجا عيون وقد طبعت سيوفك من رقاد وقد صغن الأسنة من هموم فما يخطرن إلا في فؤاد ثلاث وأربعين وثلاث مائة فيها توفي شيخ الكوفة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الشيباني. قال ابن حماد الحافظ: كان شيخ المصر والمنظور إليه ومختار السلطان والقضاة صاحب جماعة وفقه وتلاوة. فيها توفي العلامة أبو الفضل القشيري البصري المالكي صاحب التصانيف في الأصول والفروع. وفيها توفي الإمام العلامة أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن الحداد شيخ الشافعية صاحب التصانيف الحسنة المفيدة ولد يوم وفاة المزني وسمع من النسائي وكان صاحب وجه في المذهب متبحراً في الفقه متفنناً في العلوم معظماً في النفوس وعاش ثمانين سنة وكان يصوم صوم داود ويختم في اليوم والليلة وكان حداداً صنف كتاب الفروع في المذهب وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة تصدى جماعة من الأئمة الكبار لشرحه كالقفال المروزي والقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي علي السجزي قيل وشرحه أحسن الشروح. أخذ ابن الحداد الفقه عن أبي إسحاق المروزي وكان فقيهاً محققاً غواصاً على المعاني تولى القضاء بمصر والتدريس والفتاوى وكانت الرعايا تعظمه وتكرمه. وكان يقال في زمنه: عجائب الدنيا ثلاثة: غضب الجلاد ولطافة ابن السماد والرد على ابن الحداد. وفيها توفي أبو النضر محمد بن محمد الطوسي الشافعي مفتي خراسان. كان أحد من اعتنى بالحديث ورحل فيه وصنف كتاباً على وضع مسلم وكان قد جزأ الليل: ثلثاً للتصنيف وثلثاً للتلاوة وثلثاً للنوم. قال الحاكم: كان إماماً بارع الأدب ما رأيت أحسن صلاة منه كان يصوم وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني محدث نيسابور صنف المسند الكبير وصنف على الصحيحين. ومع براعته في الحديث والعلل والرجال لم يرحل من نيسابور. وفيها توفي الحافظ الأديب المفسر أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري النيسابوري.
فيها غلبت الروم على طرسوس وقتلوا وسبوا وأحرقوا قراها. وفيها توفي الفقيه الإمام شيخ الشافعية في عصره أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي. أخذ عن أبي العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي.وشرح مختصر المزني وعلق عنه الشرح أبو علي الطبري وله مسائل في الفروع ووجه في المذهب درس ببغداد وتخرج عليه خلق كثير وانتهت إليه إمامة العراقين وكان معظمتاً عند السلاطين والرعايا إلى أن توفي في رجب من السنة المذكورة. وفيها توفي الحافظ العلامة أبو الحسن القزويني القطان. سرد الصوم ثلاثين سنة وكان يفطر على الخبز والملح ورحل إلى العراق واليمن وروى عن أبي حاتم الرازي وطبقته. وفيها توفي الإمام اللغوي الزاهد صاحب ثعلب أبو عمرو محمد بن عبد الواحد البغدادي المعروف بالمطرز. قيل: أنه أملى ثلاثين ألف ورقة في اللغة من حفظه وكان آية في الحفظ والذكاء. استدرك على كتاب الفصيح كتاب شيخه ثعلب جزءاً لطيفاً سماه " فايت الفصيح " وشرحه أيضاً في جزء آخر وله " كتاب اليواقيت " و " كتاب النوادر " و " كتاب التفاحة " و " كتاب فايت العين " و " كتاب فايت الجمهرة " و " كتاب تفسير أسماء الشعراء " و " كتاب القبائل " وكتب أخرى تنيف الجميع على عشرين كتاباً. وكان لسعة روايته وغزارة حفظه يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة ويقولون: لو طار طائر لقال: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي ويذكر في معنى ذلك شيئاً. وأما روايته الحديث فإن المحدثين يصدقونه ويوثقونه. وكان أكثر ما يمليه من التصانيف يلقنه بلسانه من غير صحيفة يراجعها وكان يسأل عن شيء قد تواطأت الجماعة على وضعه فيجيب عنه ثم يترك سنة ويسأل عنه فيجيب بذلك الجواب بعينه. ومما جرى له في ذلك أنهم سألوه: ما البيطرة عند العرب. فقال: كذا وكذا فتضاحكوا سراً وتركوه شهراً ثم أمروا شخصاً سأله عن اللفظة بعينها فقال: أليس سألت عن هذه المسألة مدة كذا وكذا وأجبت عنها بكذا وكذا فتعجبوا من فطنته واستحضاره للمسألة والوقت. وكان لمعز الدولة غلام اسمه خواجا وكان المطرز المذكور قد بلغ من إملاء " كتاب اليواقيت " إلى ذكر الخبر فقال: اكتبوا ياقوتة وخواجا " الخواج في أصل لغة العرب الجوع " ثم فرع على هذا باباً وأملاه فعد الناس ذلك كذباً عظيماً ثم تتبعوه في كتب اللغة فوجدوا عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج الجوع. وكان المطرز المذكور يؤدب ولد القاضي محمد بن يوسف فأملا يوماً على الغلام مسائل في اللغة وذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر وحضر ابن دريد وابن الأنباري وابن مقسم عند القاضي المذكور فعرض عليهم تلك المسائل فما عرفوا شيئاً وأنكروا الشعر فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن ولست أقول شيئاً. وقال ابن مقسم مثل ذلك واحتج باشتغاله بالقراءآت. وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات المطرز لا أصل لشيء منها في اللغة. ثم انصرفوا فبلغ المطرز ذلك فاجتمع بالقاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم ففتح القاضي خزائنه وأخرج له تلك الدواوين فلم يزل المطرز يعمد إلى كل مسألة ويخرج لها شاهداً من بعض تلك الدواوين ويعرضه على القاضي حتى استوفى جميعها ثم قال: هذان البيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب الفلاني فأحضر القاضي الكتاب فوجد البيتين على ظهره بخطه كما ذكر بلفظه. وقال رئيس الرؤساء: وقد رأيت أشياء كثيرة مما أنكر عليه ونسب فيه إلى الكذب فوجدتها مدونة في كتب أهل اللغة وخاصة في غريب أبي عيد وقال عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمرو الزاهد يعني المطرز وله " كتاب غريب الحديث " صنفه على مسند الإمام أحمد بن حنبل وكان ابن برهان المذكور يستحسنه جداً وله شعر رائق. وفيها توفي الوزير محمد بن علي البغدادي الكاتب وكان من الصلحاء واليه المنتهى في المعروف. قيل: إنه أعتق في عمره ألف رقبة وأنفق في حجة حجها مائة ألف دينار وبلغ ارتفاع مداخله بمصر من أملاكه في العام أربع مائة ألف دينار. وفيها توفي المسعودي المؤرخ.
فيها قل المطر ونقص البحر نحواً من ثمانين ذراعاً فظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعهد وكان بالري زلازل عظيمة وخسف ببلد الطالقان في ذي الحجة ولم يفلت من أهلها إلا نحو من ثلاثين رجلاً وخسف بخمسين ومائة قرية من قرى الري فيما نقل بعض المؤرخين قال: وفيها توفي يوم عاشوراء أبو القاسم إبراهيم بن عثمان القيرواني شيخ المغرب في النحو واللغة حفظ كتاب سيبويه والمصنف الغريب وكتاب العين وإصلاح المنطق وغير ذلك. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو يعلى عبد المؤمن بن خلف السيفي. رحل وطوف.ووصل إلى اليمن ولقي أبا حاتم الرازي وخليفته وكان مفتياً ظاهرياً أثرياً وفيه زهد وتعبد. وفيها توفي أبو العباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي محدث مرو وشيخها ورئيسها. وفيها توفي مسند الأندلس الفقيه الإمام المالكي وهب بن ميسرة التميمي. كان محققاً في الفقه بصيراً بالحديث وعلله مع زهد وورع.
فيها فتكت الروم خذلهم الله تعالى ببلاد الإسلام وقتلوا خلائق وأخذوا عدة حصون بنواحي آمد وفارقين ثم وصلوا إلى قنسرين فالتقاهم سيف الدولة بن حمدان فعجز عنهم وقتلوا معظم رجاله وأسروا أهله ونجا هو في عدد يسير. وفيها سار معز الدولة واستولى على إقليم الجزيرة وفر بين يديه صاحبها ناصر الدولة فقدم على أخيه سيف الدولة بحلب وجرت أمور طويلة ثم إن سيف الدولة راسل معز الدولة يستعطفه فعقد له على الموصل وكان ناصر الدولة قد نكث بمعز الدولة مرات ومنعه الحمل والخراج. وفيها توفي الحافظ البارع أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى صاحب تاريخ مصر: تاريخ كبير للمصريين وتاريخ صغير يختص بالغرباء الواردين فيها وذيلهما أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي وبنى عليهما. وأبو سعيد المذكور حفيد يونس بن عبد الأعلى صاحب الإمام الشافعي والناقل لأقواله الجديدة. كان خبيراً بأحوال الناس ومطلعاً على تواريخهم ولما توفي رثاه عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني الحساب المصري النحوي العروضي بقوله: ثبت علمك تصنيفاً وتقريباً وعدت بعد الزيد لعيسى مندوبا أبا سعيد وما نالوك أن تشرب عنك الدواوين تصديقاً وتصويبا ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا مع أبيات أخرى حذفتها اختصارا. وفيها توفي الحافظ أبو الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي والد الحافظ تمام. وفيها توفي الأمير تميم المعز الحميري رفعوا نسبه إلى سبأ ن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر. قالوا: وهو هود عليه السلام بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام هكذا ذكره العماد في الجزيرة وتميم المذكور ملك إفريقية وما والاهما بعد أبيه المعز. وكان حسن السيرة محمود الآثار محباً للعلماء معظماً لأرباب الفضائل حتى قصدته الشعراء من الآفاق. وجده المثنى بن المسور أول من دخل منهم إلى إفريقية. وقال أبو الحسن بن رشيق القيرواني في الأمير تميم المذكور. أصح وأوعى ما سمعناه في النداء من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السنون عن الحيا عن البحر عن كف الأمير تميم ولتميم المذكور أشعار كثيرة حسنة منها. سل المطر العام الذي عم أرضكم أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي إذا كنت مطبوعا على الصد والجفا فمن أين لي صبر فأجعله طبعي ثمان وأربعين وثلاث مائة فيها عمل الخطيب عبد الرحيم بن نباتة خطبة الجهاد يحرض المسلمين على غزو الروم وكانوا قد ظفروا بسرية فأسروها وأسروا أميرها محمد بن ناصر الدولة بن حمدان ثم أغاروا على الرها وحران وقتلوا وسبوا وكروا على ديار بكر. وفيها توفي الفقيه الحافظ صاحب التصانيف شيخ الحنابلة السجاد أحمد بن سليمان وكان له حلقتان: حلقة للفتوى وحلقة للإملاء.وكان رأساً في الفقه ورأسا في الحديث قيل: كان يصوم الدهر ويفطر على رغيف ويترك منه لقمة فإذا كان ليلة الجمعة أكل تلك اللقم وتصدق بالرغيف. قلت: ومثل هذا من الفقيه عزيز كثير ومثله مذكور عن بعض أهل الرياضة من الفقراء المجردين الذي هو في حقهم قليل حقير. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو محمد جعفر بن محمد بن نصر شيخ الصوفية ومحدثهم. سمع من أبي أسامة وعلي بن عبد العزيز البغوي وطبقتهم وصحب الجنيد وأبا الحسن النوري وأبا العباس بن مسروق. وكان إليه المرجع في علم القوم وتصانيفهم وحكاياتهم وحج ستاً وخمسين حجة وعاش خمساً وتسعين سنة. تسع وأربعين وثلاث مائة فيها أوقع غلام سيف الدولة بالروم فقتل وأسر وفرح المؤمنون.وفيها وقعت وقعة هائلة ببغداد بين أهل الستة والرافضة وقويت الرافضة ببني هاشم ومعز الدولة وعطلت الصلوات في الجوامع ثم رأى معز الدولة المصلحة في القبض على جماعة من الهاشميين فسكتت الفتنة. وفيها حشد سيف الدولة ودخل بلاد الروم فأغار وفتك وسبى ورجعت إليه جيوش الروم فعجز عن لقائهم فوفي ثلاثمائة وذهبت خزانته وقتل جماعة من أمرائه. وفيها كان إسلام الترك قال ابن الجوزي أسلم من الترك مائتا ألف. وفيها توفي أبو الفوارس الصابوني أحمد بن محمد السندي الفقيه المعمر مسند ديار مصر عن يونس بن عبد الأعلى والمزني والكبار. وفيها توفي الفقيه العلامة أبو الوليد حسان بن محمد القرشي الأموي النيسابوري شيخ الشافعية بخراسان وصاحب شريح صاحب التصانيف وكان بصيراً بالحديث وعلله وأخرج كتاباً على صحيح مسلم وهو صاحب وجه في المذهب وقال الحاكم: هو إمام أهل الحديث بخراسان وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم. وفيها توفي الحافظ أحد الأعلام أبو علي الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري. قال الحاكم: هو أوحد عصره في الحفظ والإتقان والورع والمذاكرة والتصنيف. أبو نعيم: كان من كبار الحفاظ.
قالوا فيها بنى معز الدولة ببغداد دار السلطنة في غاية الحسن والكبر غرم عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم وقد درست آثارها في حدود الستمائة وبقي مكانها تأوي إليه الوحوش وبعض أساسها موجود فإنه حفر لها في الأساسات نيفاً وثلاثين ذراعاً. وفيها توفي أبو شجاع فاتك الكبير المعروف بالمجنون كان روميا أخذ صغيراً هو وأخ له وأخت لهما من بلاد الروم فتعلم بفلسطين وهو ممن أخذه الإخشيذ من سيده بالرملة كرهاً بلا ثمن فأعتقه صاحبه وكان معهم حراً في عدة المماليك وكان كريم النفس بعيد الهمة شجاعاً كثير الإقدام ولذلك قيل له المجنون. وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمته الاخشيذ فلما مات مخدومهما وتعزز كافور في تربية ابن الاخشيذ أنف فاتك من الإقامة بمصر كي لا يكون كافور أعلى رتبة منه ويحتاج إلى أن يركب في خدمته. وكانت الفيوم وأعمالها إقطاعاً فانتقل واتخذها سكناً له وهي بلاد وبية كثيرة الوخم فلم يصح بها له جسم وكان كافور يكرمه ويخافه فزعاً منه وفي نفسه منه ما فيها واستحكمت العفة في جسم فاتك وإخوته وبها دخل المتنبي ضيفاً للأستاذ كافور وكان يسمع فاتك كثرة سخائه غير أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفاً من كافور وفاتك يسأل عنه ويراسله السلام ثم التقيا في الصحراء مصادقة من غير ميعاد وجرى بينهما مفاوضات فلما رجع فاتك إلى داره حمل للمتنبي في ساعته هدية قيمتها ألف دينار ثم أتبعها بهدايا بعدها فاستأذن المتنبي كافوراً في مدحه فأذن له فمدحه بقصيدة من غرر القصائد أولها: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال وما أحسن القول فيها: كفاتك ودخول الكاف منقصة كالشمس قلت وما للشمس أمثال لما توفي رثاه المتنبي وكان قد خرج من مصر بقصيدة أولها: الحزن يعلق والتحمل يردع والدمع بينهما عصي طيع وما أرق قوله: إني لأجبن من فراق أحبتي وتمس نفسي بالحمام فأشجع ويزيدني غضب الأعادي قسوة ويلم بي عتب الصديق فأجزع تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع وفيها توفي الفقيه أبو علي الحسن بن القاسم الطبري الفقيه الشافعي أخذ عن أبي علي بن أبي هريرة وسكن ببغداد ودرس بها بعد شيخه أبي علي بن أبي هريرة وصنف التصانيف " كالمحرر في النظر " وهو أول كتاب صنف في الخلاف " و " المجرد في الخلاف " و " الإيضاح " و " العدة " كلاهما في الفقه وصنف كتابا في أصول الفقه " والطبري " نسبة إلى طبرستان والنسبة إلى طبرية طبراني وهو صاحب وجه في المذهب. وفيها توفي خليفة الأندلس الناصر لدين الله أبو المظفر عبد الرحمن بن محمد الأموي وكانت دولته خمسين سنة وقام بعده ولده المستنصر بالله وكان كبير القدر كثير المحاسن أنشأ " مدينة الزهراء " وهي عديمة الحسن في النظير غرم أهلها من الأموال ما لا يحصى ولما بلغه ضعف أحوال الخلافة بالعراق ورأى أنه أمكن منهم والي تلقب باللقب المذكور. وفيها توفي فاتك أبو شجاع الرومي الإخشيذي رفيق الأستاذ كافور وأحد أمراء الدولة وكان كافور يخافه وقد مدحه المتنبي فوصله فاتك بألف دينار.
فيها نازل طاغية الروم مدينة عين زربة بضم الزاي وسكون الراء وفتح الموحدة في مائة ألف وستين ألفاً فأخذها وقتل خلقاً لا يحصون وأحرقها ومات أهلها في الطرقات جوعاً وعطشاً إلا من نجا بأسوأ حال وهدم حولها نحواً من خمسين حصناً أخذ بعضها بالأمانة ورجع فجاء سيف الدولة على عين زربة وأخذ بتلافي الأمر وبلم شملها واعتقد أن " بعضها بالأمان " الطاغية لا يعود فدهمه الملعون ونازل حلب بجيوشه فلم يقاومه سيف الدولة ونجا في نفر يسير. وكانت داره بظاهر حلب فدخلها الملعون ونزل بها واحتوى على ما فيها من الخزائن وحاصر أهل حلب إلى أن انهدمت ثلمة من السور فدخلت الروم منها فدفعهم المسلمون عنها وبنوها في الليل ونزلت أعوان الوالي إلى بيوت العوام فنهبوا فوقع الصائح في الأسوار: الحقوا منازلكم فنزلت الناس حتى خلت الأسوار فبادرت الروم فتسلقوا وملكوا البلد ووضعوا السيف في المسلمين حتى كلوا وملوا واستباحوا حلب ولم ينج إلا من صعد إلى القلعة. وأما بغداد فرفعت المنافقون رؤوسها وقامت دولة الرافضة وكتبوا على أبواب المساجد لعن معاوية ولعن من غصب فاطمة حقها ولعن من نفى أبا ذر فمحاه أهل السنة بالليل فأمره معز الدولة بإعادته فأشار إليه الوزير المهلبي أن يكتب: ألا لعنة الله على الظالمين لآل محمد ولعن معاوية فقط. وفيها توفي قاضي الحرمين وشيخ الحنفية في عصره أبو الحسين أحمد بن محمد النيسابوري ولي قضاء الحجاز مدة وكان تفقه على أبي الحسين الكرخي وبرع في الفقه. وفيها توفي المهلبي الوزير في قول. وفيها توفي دعلج أبو محمد السجزي. قال الحاكم: أخذ عن أبي خزيمة مصنفاته وكان يفتي بمذهبه وقال الدارقطني: لم أر في مشايخنا أثبت من دعلج وقال الحاكم: لم يكن في الدنيا أيسر منه اشترى بمكة دار العباس بثلاثين ألف دينار وقيل: كان الذهب في داره بالقفاف وكان كثير المعروف والصلاة. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن عبد الباقي ين قانع بن مرزوق صنف التصانيف. وفيها توفي أبو بكر النقاش محمد بن الحسن الموصلي ثم البغدادي المقرىء المفسر صاحب التصانيف في التفسير والقراءات.
فيها يوم عاشوراء ألزم معز الدولة أهل بغداد النوح والمأتم وأمر بغلق الأبواب وعلقت عليها المسوح ومنع الطباخين من عمل الأطعمه وخرجت نساء الرافضة منشرات الشعر مسمحات وفيها يوم ثامن عشر في الحجة الرافضة عيد الغدير: غدير خم بضم الخاء المعجمة ودقت الكوسات وصلوا بالصحراء صلاة العيد. وفيها أو في التي قبلها توفي الوزير المهلبي الحسن بن محمد على الخلاف المتقدم وكان وزير معز الدولة بن بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفي آخره هاء الديلمي وكان من ارتفاع القمر واتساع الصدر وعلو الهمة وفيض الكف على ما هو مشهور به وكان في غاية الأدب والمحبة لأهله وكان قبل اتصاله بمعز الدولة في شدة عظيمة من الضرورة ولقي في سفره مشقة صعبة اشتهى اللحم فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً: ألا موت يباع فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه ألا موت لذيذ الطعم يأتي يخلصني من الموت الكريه إذا أبصرت قبراً من بعيد فودي أنني مما يليه ألا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالوفاء على أخيه وكان بمصر له رفيق يقال له أبو عبد الله الصوفي وقيل أبو الحسن العسقلاني فلما سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً وطبخه وأطعمه وتفارقا وتنقلب بالمهلبي الأحوال وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة وضاقت الأحوال برفيقه في السفر الذي اشترى له اللحم ألا قل للوزير فديت نفسي مقالة مذكر ما قد نسيه أتذكر إذ تقول لضيق عيش ألا موت يباع فأشتريه. فلما وقف عليها تذكره وهوته أريحية الكرم فأمر له في الحال بسبعمائة درهم ووقع في ورقته " كثير الملح أحسن الشعر في التشبيهات وغيرها. ومن قوله في تشبيه البنفسج. ولا زور دية تزهو بزرقتها بين الرياض على جمر اليواقيت كأنها فوق قامات ضعفن بها أوائل النار في أطراف كبريت ويروى: فوق طاقات ومن محاسن شعره: وبيض بألحاظ العيون كأنما هززن سيوفاً أو سللن خناجرا تصدين لي يوماً بمنعرج اللوى فغادرن قلبي بالتصبر غادرا سفرن بدوراً وانتقبن أهلة ومسن غصوناً والتفتن جآذرا واطلعن في الأخبار بالدر أنجماً جعلن لحيات القلوب صرائرا وهذا تقسيم ظريف قد استعمل جماعة من الشعراء لمكنهم قصرت بهم القريحة عن بلوغ هذه الصنيعة. ونحوه قول المتنبي: بدت قمراً ومالت خوط بان وفاحت عنبر أورثت غزالا قلت: ولست أدري أيهما سلك طريق الآخر تابعاً له في هذه المآخذ وهما متعاصران. توفي المتنبي بعده في سنة أربع.وسائلة تسائل عنك قلنا لها في وصفك العجب العجيبا رنا ظبياً وغنى عندليباً ولاح شقائقاً ومشى قضيبا وأما نسبة الزاهي فقال السمعاني: ولست أدري نسبة الزاهي المذكور إلى أي شيء لكن جماعة نسبوا هذه النسبة إلى قرية من قرى نيسابور. وفيها توفي ابن المنجم علي بن عبد الله الشاعر المشهور ذو نسب عريق في ظرفاء الأدباء وندماء الخلفاء يفضون إليه بأسرارهم ويأمنونه على أخبارهم وله أشعار حسان منها: بيني وبين الدهر فيك يمجه ** سيطول إن لم يجبه اعتاب يا غائبا لوصاله وكتابه ** هل يرتجى من غيبتيك إياب لولا التعلل بالرجاء لتقطعت ** نفس عليك شعارها الأوصاب لا بأس من روح الإله فربما ** يصل القطيع ويحضر الغياب وفيها توفي الحافظ أحد أركان الحديث بالأندلس أبو القاسم خالد بن سعد صنف التصانيف وكان عجباً في معرفة الرجال والعلل. وقيل كان يحفظ الشيء من فرد مرة وورد أن المستنصر بالله قال: إذا فاخرنا أهل المشرق بيحيى بن معين نحن فاخرناهم بخالد بن سعد. فيها تحارب معز الدولة وناصر الدولة أمير الموصل فانهزم أولاً ناصر الدولة ثم انتصر وأخذ حواصل معز الدولة ونقله وأسر عدة من الأتراك. وفيها توفي الحافظ البارع أبو سعيد أحمد بن محمد والسيد الجليل الشيخ أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحبري النيسابوري شهيداً بطرسوس. صنف التفسير الكبير والصحيح على رسم مسلم وغير ذلك. وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة بأصبهان في رمضان وهو في عشر الثمانين قال أبو نعيم لم ير بعد عبد الله بن مظاهر في الحفظ مثله جمع الشيوخ والمسند. وفيها توفي أبو الفوارس: شجاع بن جعفر الواعظ ببغداد وقد قارب المائة. وفيها توفي الحافظ أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري الدمشقي.
فيها توفي المتنبي الشاعر العصر الملقب بأبي الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي نسباً الكوفي ثم الكندي منزلاً قدم الشام في صباه وجال في أقطاره واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها ووحشيها فلا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي صاحب الإيضاح والتكملة قال له: كم لنا من الجموع على وزن فعلى بكسر الفاء وسكون العين وفتح اللام. - فقال المتنبي في الحال: " حجلى " و " ظربى ". قال أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً فلم أجد. قلت: وناهيك به. معرفة في حق من يقول الإمام الجليل في العربية له هذه المقالة ويشهد له بهذه الشهادة السنية. قال بعضهم: " وحجلى " جمع حجلة وهو الطائر المسمى القبج: بفتح القاف وسكون الموحدة وبالجيم. " والظربى ": بكسر الظاء المعجمة وسكون الراء وبعدها موحدة: جمع ظربان على وزن قطران وهي دويبة منتنة الرائحة. وأما شعر المتنبي فكثرة شعره تغني عن مدحته. قال ابن خلكان: والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على شعر أبي تمام ومن بعده ومنهم من يرجح أبا تمام عليه قال: واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه وذكروا أن أحد مشايخه الذين أخذ عنهم قال: وقفت له على أكثر من أربعين شرحاً ما بين مطولات ومختصرات ولم أر هذا بديوان غيره. وقال: ولا شك أنه رزق من شعره السعادة التامة. قلت: ولأهل الفضل من المتقدمين والمتأخرين خلاف كثير في تفضيل جماعة من الشعراء بعضهم على بعض وقد أوضحت ذلك في آخر الجزء الثاني من كتابي " الموسوم بمنهل المفهوم في شرح ألسنة العلوم ". وعن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير. قلت: يعني بذلك من الشعراء القدماء ومعلوم أن كثيراً من الشعراء البارعين حذقوا بعد أبي عمرو كأبي تمام والبحتري والمتنبي قال: وكان يشبه ثلاثة من شعراء الإسلام بثلاثة من شعراء الجاهلية: الفرزدق بزهير وجرير بالأعشى والأخطل بالنابغة فامرىء القيس من اليمن والنابغة وزهير إذا رعب وامرء القيس إذا ركب والأعشى إذا طرب أو قال: غضب. وسئل الشريف الرضي عن هؤلاء الثلاثة فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر وأما أبو العبادة فواصف جود وأما المتنبي فقائد عسكر أو قال: منذر عسكر. وقال بعض المتأخرين: ليس في العلم أشعر منه وأما مثله فقليل وقال أبو عمرو: قلت لجرير: ما تقول في الفرزدق. قال: أهجانا وأمدحنا قلت: فما تقول في ذي الرمة قال: نقط عروس وأبعار ظباء. قلت: فالأخطل. قال: أثنى للقمر والخمر. قلت: فما تقول فيك. قال أنا مدينة الشعر الذي أقول: وقال أبو حاتم السجستاني: قيل لابن هرمة: بسكون الراء من أشعر الناس. قال: من إذا لعب لعب وإذا جد جد مثل جرير يقول: غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا. ثم جاء فقال: إن الذي حرم الخلافة تغلباً جعل النبوة والخلافة فينا مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم يا حرز تغلب من أب كأبينا هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلى قطينا قلت: وقد تقدم في تاريخ موت جرير نحو من هذا مع زيادة في سنة عشر ومائة وتقدم هناك تفسير الحرز والقطين. وذكر بعض أئمة النحو أن أهل البصرة كانوا يقدمون امرؤ القيس وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً. وقال النابغة: ما تهاجى شاعران قط في جاهلية ولا إسلام إلا وغلب أحدهما صاحبه غير الفرزدق وجرير فإنهما تهاجيا نحو ثلاثين سنة ولم يغلب واحد منهما الآخر وقال الأصمعي: قيل لحسان: من أشعر الناس. قال: أشعرهم رجلاً أو قبيلة. قالوا: بل قبيلة. قال: هذيل قال الأصمعي: فهم أربعون شاعراً سلفاً وكفهم يعدو على رجليه ليس فيهم فارس وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي: من أشعرهم. قال النابغة الذبياني وما قال الشعر إلا قليلاً والنابغة الجعدي قال الشعر ثلاثين سنة ثم نبغ فالشعر الأول من قوله جيد بالغ والآخر كأنه مسروق وقال: تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة وكان يكابر وأما جرير فله ثلاثمائة قصيدة وما علمت سرق شيئاً قط إلا نصف بيت ولا أدري لعله وافق شيء شيئاً. قلت: يعني أشاروا إليه في قولهم: قد يقع الحافر على الحافر. رجعنا إلى ذكر المتنبي: ذكروا أنه مدح عدة ملوك وقيل إنه وصل إليه من ابن العميد ثلاثون ألف دينار ومن عضد الدولة صاحب شيراز مثلها. وأما تلقبه بالمتنبي فذكروا أنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير في تلك الناحية من كلب وغيرهم فعند ظهور هذه الدعوى العظيمة التي تكذبها الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة وإجماع الأمة بالأقوال الصريحة خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيذ فأسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلاً ثم استتابه وأطلقه وقيل غير ذلك قالوا وادعاء النبوة أصح. ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان في سبع وثلاثين وثلاثمائة ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة فمدح كافوراً الإخشيذي وكان يقف بين يديه وهو محتمل بسيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلاثمائة ووجه كافور في طلبه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق وكان كافور قد ولاه بولاية بعض أعماله فلما رأى تعاطيه في شعره السمو بنفسه خافه وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أما يدعي المملكة مع كافور الإخشيذي. فحسبكم. قال أبو الفتح بن جني: كنت أقرأ ديوان أبي الطيب عليه فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها: ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ولا أشتكي فيها ولا أتعتب وفيما يدور الشعر عني أقله ولكن قلبي يأتيه القوم قلب قال: فقلت له تغر علي كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع ألست القائل فيه: أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك ولا تعطين الناس ما أنت قائل فهذا الذي أعطاني كافور بسوء تدبيره وقلة تميزه. وكان لسيف الدولة مجلس بحضرة العلماء كل ليلة يتكلمون بحضرته فوقع بين المتنبي وابن خالويه النحوي كلام فوثب ابن خالويه على المتنبي فضرب وجهه بمفتاح كان بيده فشجه فخرج ودمه يسيل على ثيابه فغضب وخرج إلى مصر وامتدح كافوراً ثم رحل عنه وقصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة الديلمي فأجزل جائزته.ولما رجع من عنده قاصداً إلى بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من أصحابه وكان مع المتنبي أيضاً جماعة من أصحابه فقاتلوهم فقتل المتنبي وابنه محسد " بضم الميم وفتح الحاء والسين المشددة بين المهملتين " وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية في موضع يقال له الصافية وقيل خيال الصافية من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول بينهما مسافة ميلين. وذكر ابن رشيق في " كتاب العمدة " في باب منافع الشعر ومضاره أن أبا الطيب لما فر حين رأى الغلبة قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبداً وأنت القائل: الخيل والليل والبيداء تعرفني والحرب والضرب والقرطاس والقلم فكر راجعاً حتى قتل.وكان سبب قتله هذا البيت وذلك يوم الأربعاء لست بقين وقيل لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وقيل يوم الاثنين لثمان بقين وقيل لخمس بقين. ومولده سنة ثلاث وثلاثمائة بالكوفة في محلة تسمى كندة فنسب إليها.وليس هو من كندة التي هي قبيلة بل هو جعفي القبيلة بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء ولما قتل المتنبي رثاه القاسم بن المظفر بقوله: لا رعى الله شرب هذا الزمان إذ دهانا في مثل ذاك اللسان ما رأى الناس ثاني المتنبي أي ثان يرى أنكر الزمان كان من نفسه الكبير في جيش وفي كربادي سلطان لو يكن جاء من الشعر أنبى ظهرت معجزاته في المعاني قلت: وهذا البيت الأخير غيرت ألفاظ مصراعه الأول إلى هذه الألفاظ المذكورة عدولاً عن بشاعة لفظه وما يتضمن ظاهره من الكفر الموافق لما ادعاه المتنبي فإنه قال في المصراع المذكور: وهو في شعره نبي ولكن ظهرت معجزاته في المعاني ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وأشبيلية أنشد يوماً بيت المتنبي وهو من جملة قصيدته المشهورة: إذا ظفرت منك العيون بنظرة أثاب بها معنى المطي ورازمه وجعل يردده استحساناً له وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهيون الأندلسي فأنشد ارتجالاً: لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما تجيد العطايا واللهى تفتح اللهى تنبا عجباً للقريض ولو درى بأنك تدري شعره لنالها قلت: يعني بالبيت الثاني أن المتنبي إنما تنبأ أي ادعى النبوة إعجاباً منه بعشره ولو درى أنك ستدري شعره وتستحسنه لناله أي: ادعى الإلهية. وقوله في البيت الأول: واللهى تفتح اللهى الأولى: بضم اللام جمع لهوة بالضم وهو ما يجعل في الرحى من الحب.والثانية بفتح اللام جمع لهاة وهي الهيئة المطبقة في أقصى سقف الفهم واستعار بذلك استعارة حسنة يعني إنما تفتح تلك اللها لأجل ما يوضع في فمه من المآكل الطيبة والمراد إنما يجيد شعره ما يأخذه من أموال السلاطين والولاة.وذلك الذي حمله على تجويد شعره. ولقد أبدع عبد الجليل المذكور في هذين البيتين من ثلاثة أوجه: الأول: الارتجال والثاني: ما تضمنا من المعاني الحسنة المطابقة للحال والثالث ما ضمنه من الجناس الحسن.وقيل: المتنبي أنشد لسيف الدولة في الميدان قصيدة " لكل امرىء من دهره ما تعودا " فلما عاد سيف الدولة إلى داره استعاده إياها فأنشدها قاعداً. فقال بعض الحاضرين ممن يريد أن يكيد أبا الطيب: لو أنشدها قائما لأسمع فأكثر الناس لا يسمعونه فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها " لكل امرىء من دهره ما تعودا " وهذا من مستحسن الأجوبة.ومحمود أخباره ومستحسن آثاره نحوت فيها نحو الاختصار فلم أذكر شيئاً مما له من المدائح والأشعار استغناء بما فيها من الاشتهار. وفي السنة المذكورة توفي العلامة الحبر الحافظ صاحب التصانيف أبو حاتم محمد بن حبان بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة التميمي البستي وكان من أوعية العلم في الحديث والفقه واللغة والوعظ وغير ذلك حتى الطب والنجوم والكلام ولي قضاء سمرقند ثم قضاء نسا وغاب دهراً عن وطنه ثم رد إلى بست وتوفي فيها. وفيها توفي المحدث محمد بن عبد الله بن إبراهيم البغدادي الشافعي. قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً حسن التصانيف قال: ولما منعت الديلم الناس من ذكر فضائل الصحابة كتبوا السب على أبواب المساجد وكان يتعمد إملاء أحاديث الفضائل في الجامع.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سليم التميمي البغدادي. روي عنه أنه قال: أحفظ أربعمائة ألف حديث وأذاكر ستمائة ألف حديث. وذكر الدارقطني أنه خلط وأنه شفي. وفيها توفي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة وكان ظاهري المذهب فطناً مناظراً ذكياً بليغاً مفوهاً شاعراً كثير التصانيف قوالاً للحق ناصحاً للخلق عزيز المثل رحمه الله تعالى. فيها توفي أبو محمد مسلم بن معمر بن ناصح الدهلي الأديب بأصبهان.
فيها أقامت الرافضة المآتم على الحسين على العادة المارة في هذه السنوات.وفيها توفي السلطان معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي وكان في صباه يخطب وأبوه يصيد السمك فما زال يترقى في مراقي الدنيا إلى أن ملك بغداد نيفاً وعشرين سنة ومات بالإسهال وكان حازماً سائساً مهيباً رافضياً عالماً وقيل أنه رجع في مرضه عن الرفض وندم على الظلم وهو عم عضد الدولة وعماد الدولة وركن الدولة وسيأتي ذكرهم بعد إن شاء الله وفيها توفي أبو محمد المغفلي بفتح الغين المعجمة والفاء المشددة أحمد بن عبد الله الهروي أحد الأئمة. قال الحاكم: كان إمام أهل خراسان بلا مدافعة وكان فوق الوزراء وكانوا يصدرون عن رأيه. وفيها توفي أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي النحوي الأخباري صاحب التصانيف ونزيل الأندلس بقرطبة في ربيع الآخر. أخذ الأدب عن ابن كبريت وابن الأنباري وسمع من أبي يعلى الموصلي والبغوي وطبقتهما وألف كتاب البارع في اللغة في خمسة آلاف ورقة لكن لم يتمه. وفيها توفي صاحب كتاب الأغاني أبو الفرج علي بن الحسين القرشي الأموي المرواني الأصبهاني الأصل البغدادي المنشأ الكاتب الأخباري. كان أديباً نسابة علامة شاعراً كثير التصانيف وقال بعض المؤرخين: ومن العجائب أنه مرواني شيعي وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير روى عن كثير من العلماء. قال التنوخي: كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة ما لم أر قط من يحفظ مثله ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى. منها: اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً مثل علم الجوارح والبيطرة والطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء. وله المصنفات المستملحة منها كتاب الأغاني الذي وقع الاتفاق عليه أنه لم يعمل في باب مثله يقال أنه جمعه في خمسين سنة وحمله إلى سيف الدولة بن حمدان فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه. وحكي عن الصاحب بن عباد أنه كان يستصحب في أسفاره وتنقلاته حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعده يستصحب سوأه مستغنياً به عنها. ومنها " كتاب القيان " و " كتاب الإماء الشواعر " و " كتاب الدرايات " و " كتاب دعوة التجار " و " كتاب مجرد الأغاني " و " كتاب الألحانات وأدب الغرباء " وكتب صنفها لبني أمية ملوك أندلس وسيرها إليهم سراً. منها كتاب نسب بني عبد شمس " و " كتاب أيام العرب " ألف وسبع مائة يوم و " كتاب التعديل والانتصاف " في مآثر العرب ومثالبها و " كتاب جمهرة النسب " و " كتاب نسب بني شيبان " و " كتاب نسب المهالبة " و " كتاب نسب بني تغلب ونسب بني كلاب " و " كتاب المغنين الغلمان " وغير ذلك. وكان منقطعاً إلى الوزير المهلبي وله فيه مدائح من قوله قوله: ولما انتجعنا لائذين بظله أعان وما عنا ومن وما منا وردنا عليه معترين فراشنا وزدنا نداه مجدبين فأخصبنا أسعد بمولود أتاك مباركاً كالبدر أشرق جنح ليل مقمر سعد لوقت سعاد جاءت به أم حصان من بنات الأصفر متبجج في ذر ولي شرف الورى بين المهلب منتماه وقيصر شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري وأشعاره كثيرة ومحاسنه شهيرة وكانت ولادته سنة أربع وثمانين ومائتين. وفيها توفي سيف الدولة الأمير الجليل الشأن علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي الجزري صاحب الشام توفي بحلب وعمره بضع وخمسون سنة. وكان بطلاً شجاعاً أديباً شاعراً جواداً ممدحاً وقال أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر ": كان بنو حمدان ملوكاً وجههم للصباحة وألسنتهم للفصاحة وأيديهم للشجاعة وعقولهم للراحة وسيف الدولة مشهور بسيادتهم وواسطة قلادتهم حضرته مقصد الوفود ومطلق الجود وقبلة الآمال ومحل الرحال وموسم الأدباء وحلية الشعراء.قيل إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها وكان أديباً شاعراً مجيداً محباً لجيد الشعر شديد الاهتزاز له. وكان كل من أبي محمد وعبد الله بن محمد الغياض الكاتب وأبي الحسن علي بن محمد الشمساطي قد اختار من مدائح الشعر ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح الأبيات الآتيات وقد أبدع فيه كل الإبداع وقيل إنها لأبي الصقر القميصي والقول الأول ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة. وساق صبيح للصبوح دعوته فقام وفي أجفانه سنة الغمض يطوف بكاسات العقار كأنجم فمن بين منفض علينا ومنفض وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً على الجود كنار الحواشي على الأرض يطرزها قوس السحاب بأصفر على أحمر في أخضر تحت مبيض كأذيال خود أقبلت في غلائل مصيغة والبعض أقصر من بعض قال ابن خلكان: وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقية والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي الفرج. بن محمد المؤدب البغدادي فقال في فرس أدهم محجل: لبس الصبيح والدجنة بردين فأرخى برداً وقلص برداً وقيل إنها لعبد الصمد بن المعدل.وكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال فحسدها بقية الخطايا لقربها منه ومحلها من قلبه وعزم على إيقاع مكروه بها من سم أو غيره فبلغه الخبر وخاف عليها فنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً وقال: راقبتني العيون فيك فأشفقت ولم أخل قط من إشفاق فتمنيت أن تكوني بعيداً والذي بيننا من الود باق رب هجر يكون من خوف هجر وفراق يكون من خوف فراق قال ابن خلكان: رأيت هذه الأبيات بعينها في ديوان عبد المحسن الصوري والله تعالى أعلم لمن هي منهما ومن شعره أيضاً: أقبله على جزع أكثر بالطائر الفزع رأى ماء فأطعمه وخاف عواقب الطمع وصادف خلسة فدنا ولم يلتذ بالجزع ويحكى أن ابن عمه أبا فراس كان يوماً بين يديه في نفر من ندمائه فقال سيف الدولة: أيكم يجيز قولي وليس له إلا سيدي يعني أبا فراس: لك جسمي بعله فدمي لم تحله فارتجل أبو فراس وقال: إن كنت مالكاً فلي الأمر كله فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروفة تغل ألفي دينار كل سنة ومن شعر سيف الدولة أيضاً: إذا برم المولى بخدمة عبده يجني له ذنباً وإن لم يكن ذنب وأعرض لما صار قلبي بكفه فهلا جفاني حين كان لي القلب وذكر الثعالبي في اليتيمة أن سيف الدوله كتب إلى أخيه ناصر الدولة: رضيت لك العليا وإن كنت أهلها وقلت لهم بيني وبين أخي فرق ولم يك لي عنها نكول وإنما تحافيت عن حقي فتم لك الحق ولا بد لي من أن أكون مصلياً إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق ويحكى أن سيف الدولة كان يوماً بمجلسه والشعراء ينشدونه فتقدم إنسان رث الهيئة وهو بمدينة حلب فأنشده: أنت علي هذه حلب قد نفذ الزاد وانتهى الطلب بهذه هجر البلاد وبالأمير تزهو على الورى العرب وعبدك الدهر قد أضر به إليك من جور عبدك الهرب فقال سيف الدولة: أحسنت والله وأمر له بمائتي دينار وقال أبو القاسم عثمان بن محمد قاضي عين زربة بالزاي ثم الراء ثم الموحدة حضرت مجلس الأمير سيف الدولة بحلب وقد وافاه القاضي أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري وقد طرح في كمه كيساً فارغاً ودرجاً جنابك معتاد وأمرك نافذ وعبدك محتاج إلى ألف درهم فلما فرغ من شعره ضحك سيف الدولة ضحكاً شديداً وأمر له بألف درهم فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه. وكان أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم المعروف بالخالد من الشعراء المشهورين أبو بكر أكبرهما وقد وصلا إلى حضرة سيف الدولة ومدحاه فأنزلهما وقام بواجب حقهما وبعث لهما مرة وصيفاً ووصيفة ومع كل واحد منهما بدرة وتخت ثياب من عمل مصر فقال أحدهما من قصيدة طويلة: لم يعد شكرك في الخلائق مطلقاً إلا ومالك في النوال حبيس حولتنا شمساً وبدراً أشرقت بهما الدنيا الظلمة الحنديس رسالة أتانا وهو حسناء يوسف وغزالة هي بهجة بلقيس وهذا ولم تقنع بذا وبهذه حتى بعثت المال وهو نفيس أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة وأتى على ظهر الوصيف الكيس وحبوتنا مما أحادث حوله مصر وزادت حسنة بئيس فغدا لنا من جودك المأكول والمشروب والمنكوح والملبوس ومن أشعار سيف الدولة وقد جرت بينه وبين أخيه وحشة فكتب إليه سيف الدولة: # لست أجفو وإن جفيت ولا أترك حقاً علي في كل حال إنما أنت والد والأب الجافي يجازي بالصبر والاحتمال وكتب إليه مرة أخرى ما تقدم من قوله قريباً: " رضيت لك العليا وإن كنت أهلها ". وكان الذي لقيهما ناصر الدولة وسيف الدولة.الخليفة المتقي لله وعظم شأنهما وكان الخليفة المكتفي بالله قد ولى أباهما عبد الرحمن بن حمدان الموصل وأعمالها. وناصر الدولة أكبر سناً من سيف الدولة فملك الموصل بعد أبيه وكان أقدم منزلة عند الخلفاء. فلما توفي سيف الدولة تغيرت أحواله كما سيأتي في ترجمته.وأخبار سيف الدولة كثيرة مع الشعراء خصوصاً مع المتنبي والسري الرفاء واليامي والببغا. ولو أراد تلك الطبقة في تعدادهم طول. وكانت ولادته يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاث مائة وقيل سنة إحدى وثلاث مائة. وتوفي يوم الجمعة ثالث ساعة وقيل رابع ساعة لخمس بقين من صفر السنة المذكورة بحلب وقد نقل إلى فارقين ودفن في تربة. وكان قد جمع له من بعض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله بقدر الكف وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده فنفذت وصيته في ذلك وكان تملكه بحلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيذ: قلت ولعله المراد بقول الشاعر: ما زلت أسمع والركبان تخبرني ** عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت * أذني بأحسن مما قد رأى بصري على ما ذكر بعض أهل المعاني والبيان أنه أحمد بن سعيد والذي ذكره ابن خلكان وغيره أنه جعفر بن فلاح وإن قائلهما ابن هانىء الأندلسي وغلط من قال خلاف هذا والبيتان المذكوران في ترجمة جعفر المذكور في سنة ستين وثلاثمائة. وملك بعد سيف الدولة ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة. وطالت مدته أيضاً في المملكة ثم عرض له قولنج أشرف منه على التلف وفي اليوم الثالث من عافيته واقع جاريته فلما فرغ منها سقط عنها وقد جف شقه الأيمن فدخل عليه طبيبه فأمر أن يسحق عنده الند والعنبر فأفاق قليلاً فقال الطبيب له: أرني مجسك فناوله يده اليسرى فقال: أريد اليمنى فقال: ما تركت اليمين يميناً وكان قد حلف وغدر. وتوفي ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاث مائة وعمره أربعون سنة وست أشهر وعشرة أيام وتولى بعده ولده أبو الفضل سعد ولم يذكروا تاريخ وفاته وفي السنة المذكورة وقيل في العام الآتي توفي أبو المسك كافور الحبشي الأسود الخادم الإخشيذي صاحب الديار المصرية. اشتراه الإخشيذ صاحب مصر والحجاز والشام فتقدم عنده حتى صار من أكبر قواده لعقله ورأيه وشجاعته ثم صار أتابك ولده الأكبر أبي القاسم بعده وكان صبياً فبقي الاسم لأبي القاسم ولد الكافور فأحسن سياسة الأمور إلى أن مات أبو القاسم سنة تسع وأربعين وثلاث مائة. وأقام كافور في الملك بعده وتولى بعده أخوه أبو الحسن علي فاستمر كافور على نيابته وحسن سيرته إلى أن توفي علي المذكور سنة خمس وخمسين ثلاث مائة وقيل بل أربع وخمسين. ثم استقل كافور بالمملكة من هذا التاريخ وكان وزيره أبو الفضل جعفر ابن الفرات وكان يرغب في أهل الخير ويعظمهم وكان شديد السواد اشتراه الإخشيذ بثمانية عشر ديناراً على ما قيل. وكان أبو الطيب المتنبي قد فارق سيف الدولة بن حمدان مغاضباً كما تقدم وقصد مصر وامتدح كافوراً بمدائح حسان فمن ذلك قوله في أول قصيدة وقد وصف الخيل: قواصد كافور تدارك غيره ومن قصد البحر استقل السواقيا فجاءت بنا إنسان عين زمانه فحقت بياضاً خلفها ومآقيا فأحسن في هذا إحساناً بلغ الغايات القصوى قلت: ولدي أنه لو قال: " يومين بحراً تاركين وأخلاق كافور إذا شئت مدحه وإن لم أشأ تملى علي فأكتب إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ويم كافوراً فما يتغرب ومن جملتها: ويصلحك في ذي العبد كل حبيبة خلاني فأبكي من أحب وأندب أحسن إلى أهلي وأهوى لقاءهم وأين من المشتاق عنقاء مغرب فإن لم يكن إلا أبو المسك أوهم فإنك أحلى في فؤادي وأعذب وكل امرىء يؤتى الجميل يحبه وكل مكان ينبت العز أطيب ومن قصيدة هي آخر شيء أنشده: أرى لي بقربي منك عيناً قريرة وإن كان قرباً بالبعاد خباب وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ودون الذي أمليت منك حجاب وفي النفس حاجات وفيك فطانة سكوتي بيان عنهما وخطاب وما أنا بالباغي على الحب رشوة ضعيف هوى يبغى عليه ثواب وما شئت إلا أن أدل عواذلي على أن رأيي في هواك صواب وأن مديح الناس حق وباطل ومدحك حق ليس فيه كذاب إذا نلت منك الود فالمال هين وكل الذي فوق التراب تراب وما كنت لولا أنت إلا مهاجراً له كل يوم بلدة وصحاب ولكنك الدنيا إليك حبيبة فما عنك لي إلا إليك ذهاب وأقام المتنبي بعد إنشاد هذه القصيدة بمصر سنة لا يلقى كافوراً غضباً عليه يركب في خدمته خوفاً منه ولا يجتمع به واستعد للرحيل في الباطن وجهز جميع ما يحتاج إليه وقال في يوم عرفة سنة خمسين وثلاثمائة قبل مفارقته مصر بيوم واحد قصيدته الدالية التي هجا كافوراً فيها وفي أخرها: من علم الأسود المخصي تكرمة أأمه البيض أم آباؤه الصيد وله فيه من الهجو كثير تضمنه ديوانه ثم فارقه وبعد ذلك دخل إلى عضد الدولة. وذكر بعضهم قال: حضرت مجلس كافور الإخشيذي فدخل رجل ودعا له فقال في دعائه: أدام الله تعالى أيام مولانا " بكسر الميم " من أيام فتكلم جماعة من الحاضرين في ذلك وعلبوه فقام رجل من أوساط الناس وأنشد مرتجلاً: لا غرو إن لحن الداعي لسيدنا ** أو غض من دهش بالريق أو نهر وإن يكن خفض الأيام من غلط ** في موضع النصب لا عن قلة النظر فقد تفاءلت من هذا لسيدنا ** والفأل مأثورة عن سيد البشر بأن أيامه خفض بلا نصب ** وأن أوقاته صفو بلا كدر قوله بالحصر " بفتح الحاء والصاد المهملتين ": العي وهو أيضاً ضيق الصدر وأخبار كافور كثيرة ولم يزل مستقلاً بالأمر بعد أمور يطول شرحها إلى أن توفي يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الأولى من السنة المذكورة بمصر على القول الصحيح ودفن بالقرافة وقبته هناك مشهورة ولم تطل مدته في الاستقلال على ما ظهر من تاريخ موت علي بن الأخشيذ إلى هذا التاريخ. وكانت بلاد الشام في مملكته أيضاً مع مصر وكان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز جميعه والديار المصرية وبلاد الشام من دمشق وحلب وأنطاكية وطرسوس ومصيصة وغير ذلك وعاش نيفاً وستين سنة.
|